فصل: باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب النميمة من الكبائر‏)‏ سقط لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ من رواية أبي ذر وحده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ أَخْبَرَنَا عَبِيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا فَقَالَ يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا بِكِسْرَتَيْنِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فَجَعَلَ كِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا وَكِسْرَةً فِي قَبْرِ هَذَا فَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس في قصة القبرين، وهو ظاهر فيما ترجم به، لقوله في سياقه ‏"‏ وإنه لكبير ‏"‏ وقد تقدم القول فيه في كتاب الطهارة، وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ ‏"‏ وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة‏"‏‏.‏

‏(‏لطيفة‏)‏ ‏:‏ أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة، وهي أن البرزخ مقدمة الآخرة، وأول ما يقضي فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ

وَقَوْلِهِ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ وَيَعِيبُ وَاحِدٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يكره من النميمة‏)‏ كأنه أشار بهذه الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الإفساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرا مثلا، كما يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله تعالى‏:‏ هماز مشاء بنميم‏)‏ قال الراغب همز الإنسان اغتيابه، والنم إظهار الحديث بالوشاية، وأصل النميمة الهمس والحركة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويل لكل همزة لمزة، يهمز ويلمز ويعيب واحد‏)‏ كذا للأكثر بكسر العين المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة، ووقع في رواية الكشميهني ويغتاب بغين معجمة ساكنة ثم مثناة وأظنه تصحيفا، والهمزة الذي يكثر منه الهمز وكذا اللمزة، واللمز تتبع المعايب‏.‏

ونقل ابن التين أن اللمز العيب في الوجه والهمز في القفا، وقيل‏:‏ بالعكس، وقيل‏:‏ الهمز الكسر واللمز الطعن، فعلى هذا هما بمعنى واحد لأن المراد بالكسر الكسر من الأعراض وبالطعن الطعن فيها، وحكي في ميم يهمز ويلمز الضم والكسر، وأسند البيهقي عن ابن جريج قال‏:‏ الهمز بالعين والشدق واليد، واللمز باللسان‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ قَالَ كُنَّا مَعَ حُذَيْفَةَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ رَجُلاً يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي، وهمام هو ابن الحارث، والسند كله كوفيون‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن رجلا يرفع الحديث‏)‏ لم أقف على اسمه، وعثمان هو ابن عفان أمير المؤمنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال حذيفة‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ فقال له حذيفة ‏"‏ ولمسلم من رواية الأعمش عن إبراهيم ‏"‏ فقال حذيفة وأراده أن يسمعه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة‏)‏ أي في أول وهلة كما في نظائره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قتات‏)‏ بقاف ومثناة ثقيلة وبعد الألف مثناة أخرى هو النمام، ووقع بلفظ ‏"‏ نمام ‏"‏ في رواية أبي وائل عن حذيفة عند مسلم، وقيل‏:‏ الفرق بين القتات والنمام أن النمام الذي يحضر فينقلها والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه‏.‏

قال الغزالي ما ملخصه‏:‏ ينبغي لمن حملت إليه نميمة أن لا يصدق من نم له ولا يظن بمن نم عنه ما نقل عنه ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له وأن ينهاه ويقبح له فعله وأن يبغضه إن لم ينزجر وأن لا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه فينم هو على النمام فيصير نماما، قال النووي‏:‏ وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهي مستحبة أو واجبة، كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصا ظلما فحذره منه، وكذا من أخبر الإمام أو من له ولاية بسيرة نائبه مثلا فلا منع من ذلك‏.‏

وقال الغزالي ما ملخصه‏:‏ النميمة في الأصل نقل القول إلى المقول فيه، ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو غيرهما، وسواء كان المنقول قولا أم فعلا، وسواء كان عيبا أم لا، حتى لو رأى شخصا يخفي ما له فأفشى كان نميمة‏.‏

واختلف في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان، والراجح التغاير، وأن بينهما عموما وخصوصا وجهيا، وذلك لأن النميمة نقل حال الشخص لغيره على جهة الإفساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه، والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه، فامتازت النميمة بقصد الإفساد، ولا يشترط ذلك في الغيبة، وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه، واشتركتا فيما عدا ذلك‏.‏

ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائبا، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى واجتنبوا قول الزور‏)‏ قال الراغب‏:‏ الزور الكذب، قيل له ذلك لكونه مائلا عن الحق، والزور بفتح الزاي الميل‏.‏

وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن القول المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقا أو كذبا فالكذب فيه أقبح‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ قَالَ أَحْمَدُ أَفْهَمَنِي رَجُلٌ إِسْنَادَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا أحمد بن يونس‏)‏ هو أحمد بن عبد الله بن يونس نسب إلى جده، وقد تقدم حديث الباب في أوائل الصيام أخرجه عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب بالسند والمتن وتقدم شرحه هناك، وقوله هنا في آخره‏:‏ ‏"‏ قال أحمد أفهمني رجل إسناده ‏"‏ أحمد هو ابن يونس المذكور‏.‏

والمعنى أنه لما سمع الحديث من ابن أبي ذئب لم يتيقن إسناده من لفظ شيخه فأفهمه إياه رجل كان معه في المجلس، وقد خالف أبو داود رواية البخاري فأخرج الحديث المذكور عن أحمد بن يونس هذا لكن قال في آخر‏:‏ ‏"‏ قال أحمد فهمت إسناده من ابن أبي ذئب، وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه ‏"‏ وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس، وهذا عكس ما ذكره البخاري، فإن مقتضى روايته أن المتن فهمه أحمد من شيخه ولم يفهم الإسناد منه بخلاف ما قال أبو داود وإبراهيم بن شريك، فيحمل على أن أحمد بن يونس حدث به على الوجهين‏.‏

وخبط الكرماني هنا فقال‏:‏ قال أفهمني أي كنت نسيت هذا الإسناد فذكرني رجل إسناده، ووجه الخبط نسبته إلى أحمد بن يونس نسيان الإسناد وأن التذكير وقع له من الرجل بعد ذلك، وليس كذلك، بل أراد أنه لما سمعه من ابن أبي ذئب خفي عنه بعض لفظه أما على رواية البخاري فمن الإسناد، وأما على رواية أبي داود فمن المتن، وكان الرجل بجنبه فكأنه استفهمه عما خفي عليه منه فأفهمه، فلما كان بعد ذلك وتصدى للتحديث به أخبر بالواقع ولم يستجز أن يسنده عن ابن أبي ذئب بغير بيان‏.‏

وقد وقع مثل ذلك لكثير من المحدثين، وعقد الخطيب لذلك بابا في كتاب ‏"‏ الكفاية ‏"‏ وانظر إلى قوله‏:‏ ‏"‏ أفهمني رجل إلى جنبه ‏"‏ أي إلى جنب ابن أبي ذئب‏.‏

ثم قال الكرماني‏:‏ وأراد رجل عظيم والتنوين يدل عليه والغرض مدح شيخه ابن أبي ذئب أو رجل آخر غيره أفهمني ا هـ‏.‏

ولم يتعين أنه تعظيم للرجل الذي أفهمه من مجرد قوله رجل، بل الذي فيه أنه إنما نسي اسمه فعبر عنه برجل أو كنى عن اسمه عمدا، وأما مدح شيخه فليس في السياق ما يقتضيه‏.‏

قلت‏:‏ وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة المخزومي، وكان له أخوان المغيرة وطالوت، ولم أقف على اسم ابن أخيه المذكور ولا على تعيين أبيه أيهما هو، قال ابن التين‏:‏ ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر، وإليه ذهب بعض السلف، وذهب الجمهور إلى خلافه، لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر‏.‏

قلت‏:‏ وفي كلامه مناقشة لأن حديث الباب لا ذكر للغيبة فيه، وإنما فيه قول الزور والعمل به والجهل، ولكن الحكم والتأويل في كل ذلك ما أشار إليه والله أعلم‏.‏

وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ فليس لله حاجة ‏"‏ هو مجاز عن عدم قبول الصوم‏.‏

*3*باب مَا قِيلَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما قيل في ذي الوجهين‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة وفيه تفسيره وهو من جملة صور التمام‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏تجد من شرار الناس‏)‏ كذا وقع في رواية الكشميهني ‏"‏ شرار ‏"‏ بصيغة الجمع، وأخرجه الترمذي من طريق أبي معاوية عن الأعمش بلفظ ‏"‏ إن من شر الناس ‏"‏ وقد تقدم في أوائل المناقب في طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عنه عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ تجدون شر الناس ‏"‏ وأخرجه مسلم من هذا الوجه ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ ‏"‏ تجدون من شر الناس ذا الوجهين، وأخرجه أبو داود من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بلفظ ‏"‏ من شر الناس ذو الوجهين ‏"‏ ولمسلم من رواية مالك عن أبي الزناد ‏"‏ إن من شر الناس ذا الوجهين ‏"‏ وسيأتي في الأحكام من طريق عراك بن مالك عنه بلفظ ‏"‏ إن شر الناس ذو الوجهين ‏"‏ وهو عند مسلم أيضا، وهذه الألفاظ متقاربة والروايات التي فيها ‏"‏ شر الناس ‏"‏ محمولة على الرواية التي فيها ‏"‏ من شر الناس ‏"‏ ووصفه بكونه شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك، ورواية ‏"‏ أشر الناس ‏"‏ بزيادة الألف لغة في شر يقال خير وأخير وشر وأشر بمعنى ولكن الذي بالألف أقل استعمالا، ويحتمل أن يكون المراد بالناس من ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم‏.‏

والأولى حمل الناس على عمومه فهو أبلغ في الذم، وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي شهاب عن الأعمش بلفظ ‏"‏ من شر خلق الله ذو الوجهين ‏"‏ قال القرطبي‏:‏ إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس‏.‏

وقال النووي‏:‏ هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة‏.‏

قال‏:‏ فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود‏.‏

وقال غيره‏:‏ الفرق بينهما أن المذموم من يزين لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل ويستر القبيح‏.‏

ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش ‏"‏ الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء ‏"‏ وقال ابن عبد البر‏:‏ حمله على ظاهره جماعة وهو أولى، وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيري الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك، قال‏:‏ وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين، لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله‏:‏ ‏"‏ يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ‏"‏ قلت‏:‏ وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث، لكن دلت بقية الروايات على أن الراوي اختصره، فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش، وقد ثبت هنا من رواية الأعمش بتمامه، ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي ترد التأويل المذكور صريحا، وقد رواه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ ‏"‏ لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينا‏"‏‏.‏

وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله‏:‏ من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار ‏"‏ وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ، وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البر عمن ذكره بخلاف حديث الباب فإنه فسر من يتردد بين طائفتين من الناس، والله أعلم‏.‏

*3*باب مَنْ أَخْبَرَ صَاحِبَهُ بِمَا يُقَالُ فِيهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه‏)‏ قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقلة الأخبار من يقصد الإفساد، وأما من يقصد النصيحة ويتحرى الصدق ويجتنب الأذى فلا، وقل من يفرق بين البابين، فطريق السلامة في ذلك لمن يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الإمساك عن ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ وَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ

الشرح‏:‏

حديث ابن مسعود في إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائل ‏"‏ هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ‏"‏ سيأتي شرحه مستوفى في ‏"‏ باب الصبر على الأذى ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

وقوله في هذه الرواية فتمعر وجهه بالعين المهملة أي تغير من الغضب، وللكشميهني فتمغر بالغين المعجمة أي صار لونه لون المغرة، وأراد البخاري بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة، لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن مسعود نقله ما نقل، بل غضب من قول المنقول عنه، ثم حلم عنه وصبر على أذاه ائتساء بموسى عليه السلام وامتثالا لقوله تعالى‏:‏ ‏(‏فبهداهم اقتده‏)‏ ‏.‏

*3*باب مَا يُكْرَهُ مِنْ التَّمَادُحِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يكره من التمادح‏)‏ هو تفاعل من المدح أي المبالغ، والتمدح التكلف والممادحة أي مدح كل من الشخصين الآخر، وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب واحد، ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره، وقد ترجم له في الشهادات ‏"‏ ما يكره من الإطناب في المدح‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَةِ فَقَالَ أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى قال فيه حدثنا محمد بن الصباح بفتح المهملة وتشديد الموحدة وآخره حاء مهملة هو البزار، ووقع هنا في رواية أبي ذر ‏"‏ محمد بن صباح ‏"‏ بغير ألف ولام، وتقدم الكل في الشهادات بهذا الحديث بعينه، وأخرجه مسلم عنه فقال‏:‏ ‏"‏ حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح ‏"‏ وهذا الحديث هما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد، ومما ذكره البخاري بسنده ومتنه في موضعين ولم يتصرف في متنه ولا إسناده وهو قليل في كتابه، وقد أخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن الصباح‏.‏

وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه‏:‏ قال عبد الله وسمعته أنا من محمد بن الصباح فذكره، وإسماعيل بن زكريا شيخه هو الخلقاني بضم المعجمة وسكون اللام بعدها قاف، وبريدة بموحدة وراء يكنى أبا بردة مثل كنية جده وهو شيخه فيه، وقوله عن بريد في رواية الإسماعيلي ‏"‏ حدثنا بريد ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل‏)‏ لم أقف على اسمهما صريحا، ولكن أخرج أحمد والبخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال‏:‏ ‏"‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ‏"‏ فذكر حديثا قال فيه ‏"‏ فدخل المسجد فإذا رجل يصلي، فقال لي من هذا‏؟‏ فأثنيت عليه خيرا، فقال‏:‏ اسكت لا تسمعه فتهلكه ‏"‏ وفي رواية له ‏"‏ فقلت يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا ‏"‏ وفي أخرى له ‏"‏ هذا فلان وهو من أحسن أهل المدينة صلاة، أو من أكثر أهل المدينة ‏"‏ الحديث‏.‏

والذي أثنى عليه محجن يشبه أن يكون هو عبد الله ذو النجادين المزني، فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويطريه‏)‏ بضم أوله وبالطاء المهملة من الإطراء وهو المبالغة في المدح، وسأذكر ما ورد في بيان ما وقع من ذلك في الحديث الذي بعده‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في المدحة‏)‏ بكسر الميم، وفي نسخة مضت في الشهادات ‏"‏ في المدح ‏"‏ بفتح الميم بلا هاء، وفي أخرى ‏"‏ في مدحه ‏"‏ بفتح الميم وزيادة الضمير والأول هو المعتمد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لقد أهلكتم - أو قطعتم - ظهر الرجل‏)‏ كذا فيه بالشك، وكذا لمسلم، وسيأتي في حديث أبي بكرة الذي بعده بلفظ ‏"‏ قطعت عنق صاحبك ‏"‏ وهما بمعنى، والمراد بكل منهما الهلاك لأن من يقطع عنقه يقتل ومن يقطع ظهره يهلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْراً

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ يَقُولُهُ مِرَاراً إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحاً لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَحَسِيبُهُ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَداً قَالَ وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ وَيْلَكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن خالد‏)‏ هو الحذاء وصرح به مسلم في روايته من طريق غندر عن شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا‏)‏ وفي رواية غندر ‏"‏ فقال‏:‏ يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا ‏"‏ لعله يعني الصلاة لما سيأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويحك‏)‏ هي كلمة رحمة وتوجع، وويل كلمة عذاب، وقد تأتي موضع ويح كما سأذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا‏)‏ في رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء التي مضت في الشهادات ‏"‏ ويحك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، مرارا ‏"‏ وبين في رواية وهيب التي سأنبه عليها بعد أنه قال ذلك ثلاثا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن كان أحدكم‏)‏ في رواية يزيد بن زريع ‏"‏ وقال إن كان ‏"‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا محالة‏)‏ أي لا حيلة له في ترك ذلك وهي بمعنى لا بد والميم زائدة، ويحتمل أن يكون من الحول أي القوة والحركة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى‏)‏ بضم أوله أي يظن ووقع في رواية يزيد بن زريع ‏"‏ إن كان يعلم ذلك ‏"‏ وكذا في رواية وهيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والله حسيبه‏)‏ بفتح أوله وكسر ثانيه وبعد التحتانية الساكنة موحدة أي كافيه، ويحتمل أن يكون هنا فعيل من الحساب أي محاسبة على عمله الذي يعلم حقيقته، وهي جملة اعتراضية‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ هي من تتمة المقول، والجملة الشرطية حال من فاعل فليقل، والمعنى فليقل أحسب أن فلانا كذا إن كان يحسب ذلك منه والله يعلم سره لأنه هو الذي يجازيه، ولا يقل أتيقن ولا أتحقق جازما بذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يزكي على الله أحد‏)‏ كذا لأبي ذر عن المستملي والسرخسي بفتح الكاف على البناء للمجهول وفي رواية الكشميهني ‏"‏ ولا يزكي ‏"‏ بكسر الكاف على البناء للفاعل وهو المخاطب أولا المقول له فليقل، وكذا في أكثر الروايات‏.‏

وفي رواية غندر ‏"‏ ولا أزكي ‏"‏ بهمزة بدل التحتانية أي لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه، وجيء بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهي أي لا تزكوا أحدا على الله لأنه أعلم بكم منكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال وهيب عن خالد‏)‏ يعني بسنده المتقدم ‏(‏ويلك‏)‏ أي وقع في روايته ويلك بدل ويحك، وستأتي رواية وهيب موصولة في ‏"‏ باب ما جاء في قول الرجل ويلك ‏"‏ ويأتي شرح هذه اللفظة هناك‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ حاصل النهي أن من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف به، ولذلك تأول العلماء في الحديث الآخر ‏"‏ احثوا في وجوه المداحين التراب ‏"‏ أن المراد من يمدح الناس في وجوههم بالباطل‏.‏

وقال عمر‏:‏ المدح هو الذبح‏.‏

قال‏:‏ وأما من مدح بما فيه فلا يدخل في النهي، فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في‏:‏ وجه مادحه ترابا‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

فأما الحديث المشار إليه فأخرجه مسلم من حديث المقداد، وللعلماء فيه خمسة أقوال‏:‏ أحدها هذا وهو حمله على ظاهره واستعمله المقداد راوي الحديث، والثاني الخيبة والحرمان كقولهم لمن رجع خائبا رجع وكفه مملوءة ترابا‏.‏

والثالث قولوا له بفيك التراب، والعرب تستعمل ذلك لمن تكره قوله‏.‏

والرابع أن ذلك يتعلق بالممدوح كأن يأخذ ترابا فيبذره بين يديه يتذكر بذلك مصيره إليه فلا يطغي بالمدح الذي سمعه‏.‏

والخامس المراد بحثو التراب في وجه المادح إعطاؤه ما طلب لأن كل الذي فوق التراب تراب، وبهذا جزم البيضاوي وقال‏:‏ شبه الإعطاء بالحثي على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة، قال الطيبي‏:‏ ويحتمل أن يراد رفعه عنه وقطع لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ، والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به‏.‏

وأما الأثر عن عمر فورد مرفوعا أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث معاوية ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ فذكره بلفظ ‏"‏ إياكم والتمادح فإنه الذبح ‏"‏ وإلى لفظ هذه الرواية رمز البخاري في الترجمة، وأخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ مطولا وفيه ‏"‏ وإياكم والمدح فإنه من الذبح ‏"‏ وأما ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم فقد أرشد مادحيه إلى ما يجوز من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ‏"‏ الحديث، وقد تقدم بيانه في أحاديث الأنبياء، وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمرو ‏"‏ نعم العبد عبد الله ‏"‏ وغير ذلك وقال الغزالي في ‏"‏ الإحياء ‏"‏ آفة المدح في المادح أنه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا أو ظالما، فقد جاء في حديث أنس رفعه ‏"‏ إذا مدح الفاسق غضب الرب ‏"‏ أخرجه أبو يعلى وابن أبي الدنيا في الصمت، وفي سنده ضعف، وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فليقل أحسب ‏"‏ وذلك كقوله إنه ورع ومتق وزاهد، بخلاف ما لو قال‏:‏ رأيته يصلي أو يحج أو يزكي فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك، ولكن تبقى الآفة على الممدوح، فإنه لا يأمن أن يحدث فيه المدح كبرا أو إعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل، لأن الذي يستمر في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا، فإن سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به بأس، وربما كان مستحبا، قال ابن عيينة‏:‏ من عرف نفسه لم يضره المدح‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ إذا مدح الرجل في وجهه فليقل‏:‏ اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرا مما يظنون، أخرجه البيهقي في ‏"‏ الشعب‏"‏‏.‏

*3*باب مَنْ أَثْنَى عَلَى أَخِيهِ بِمَا يَعْلَمُ

وَقَالَ سَعْدٌ مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أثنى على أخيه بما يعلم‏)‏ أي فهو جائز ومستثنى من الذي قبله، والضابط أن لا يكون في المدح مجازفة، ويؤمن على الممدوح الإعجاب والفتنة كما تقدم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سعد‏)‏ هو ابن أبي وقاص، وتقدم الحديث المذكور موصولا في مناقب عبد الله من كتاب المناقب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ فِي الْإِزَارِ مَا ذَكَرَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ إِزَارِي يَسْقُطُ مِنْ أَحَدِ شِقَّيْهِ قَالَ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُمْ

الشرح‏:‏

ذكر المصنف حديث ابن عمر موصولا في قصة جر الإزار ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ إن إزاري يسقط من أحد شقيه، قال‏:‏ إنك لست منهم ‏"‏ وقد تقدم أبسط من هذا في كتاب اللباس، وفي لفظ ‏"‏ إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء ‏"‏ وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقا محضا وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر ‏"‏ ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك ‏"‏ وقوله للأنصاري ‏"‏ عجب الله من صنعكما ‏"‏ وغير ذلك من الأخبار‏.‏

*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

وَقَوْلِهِ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ وَتَرْكِ إِثَارَةِ الشَّرِّ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قول الله تعالى ‏(‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏)‏ الآية‏)‏ كذا لأبي ذر والنسفي، وساق الباقون إلى ‏(‏تذكرون‏)‏ وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق أبي الضحى قال ‏"‏ قال شتير بن شكل لمسروق‏:‏ حدث يا أبا عائشة وأصدقك‏.‏

قال‏:‏ هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول‏:‏ ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية ‏(‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى‏)‏ ‏؟‏ قال نعم ‏"‏ وسنده صحيح‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله‏:‏ إنما بغيكم على أنفسكم‏)‏ أي إن أثم البغي على الباغي إما عاجلا وإما آجلا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقوله‏:‏ ثم بغي عليه لينصرنه الله‏)‏ كذا في رواية كريمة والأصيلي على وفق التلاوة، وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين ‏"‏ ومن بغي عليه ‏"‏ وهو سبق قلم إما من المصنف وإما ممن بعده، كما أن المطابق للتلاوة إما من المصنف وإما من إصلاح من بعده، وإذا لم تتفق الروايات على شيء فمن جزم بأن الوهم من المصنف فقد تحامل عليه‏.‏

قال الراغب‏:‏ البغي مجاوزة القصد في الشيء‏.‏

فمنه ما يحمد ومنه ما يذم، فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الإتيان بالمأمور بغير زيادة فيه ولا نقصان منه إلى الإحسان وهو الزيادة عليه، ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المأذون فيه، والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة، ومع ذلك فأكثر ما يطلق البغي على المذموم قال الله تعالى ‏(‏إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق‏)‏ وقال تعالى ‏(‏إنما بغيكم على أنفسكم‏)‏ وقال تعالى ‏(‏فمن اضطر غير باغ ولا عاد‏)‏ وإذا أطلق البغي وأريد به المحمود يزاد فيع غالبا التاء كما قال تعالى ‏(‏فابتغوا عند الله الرزق‏)‏ وقال تعالى ‏(‏وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها‏)‏ وقال غيره‏:‏ البغي الاستعلاء بغير حق، ومنه بغي الجرح إذا فسد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر‏)‏ ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ابن بطال‏:‏ وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي، وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي، وضمن النصر لمن بغي عليه كان حق من بغي عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه، وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث أنه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج السحر خشية أن يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط السحر من آثر الضرر الناشئ عن السحر شر، وسلك مسلك الإحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ يستفاد من الآية الأولى أن دلالة الاقتران ضعيفة، لجمعه تعالى بين العدل والإحسان في أمر واحد، والعدل واجب والإحسان مندوب‏.‏

قلت‏:‏ وهو مبني على تفسير العدل والإحسان، وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل‏:‏ العدل لا إله إلا الله، والإحسان الفرائض‏.‏

وقبل‏:‏ العدل لا إله إلا الله، والإحسان الإخلاص‏.‏

وقيل‏:‏ العدل خلع الأنداد، والإحسان أن تعبد الله كأنـك تراه‏.‏

وهو بمعنى الذي قبله‏.‏

وقيل‏:‏ العدل الفرائض، والإحسان النافلة وقيل‏:‏ العدل العبادة، والإحسان الخشوع فيها‏.‏

وقيل العدل الإنصاف، والإحسان التفضل‏.‏

وقيل‏:‏ العدل امتثال المأمورات، والإحسان اجتناب المنهيات‏.‏

وقيل، العدل بذل الحق، والإحسان ترك الظلم‏.‏

وقيل‏:‏ العدل استواء السر والعلانية، والإحسان فضل العلانية‏.‏

وقيل‏:‏ العدل البذل، والإحسان العفو‏.‏

وقيل‏:‏ العدل في الأفعال، والإحسان في الأقوال‏.‏

وقيل غير ذلك‏.‏

وأقر بها لكلامه الخامس والسادس‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ العدل بن العبد وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه، وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات الشهوات، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف‏.‏

انتهى ملخصا‏.‏

وقال الراغب‏:‏ العدل ضربان مطلق يقتضي العقل حسنه ولا يكون في شيء من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه، نحو أن تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك‏.‏

وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد، ولذا قال تعالى ‏(‏فمن اعتدى عليكم‏)‏ الآية، وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى ‏(‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏)‏ فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر، والإحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك أو بأقل منه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي ذَاتَ يَوْمٍ يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِي أَمْرٍ اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ أَتَانِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رِجْلَيَّ وَالْآخَرُ عِنْدَ رَأْسِي فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي مَا بَالُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ يَعْنِي مَسْحُوراً قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ قَالَ وَفِيمَ قَالَ فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ تَحْتَ رَعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُخْرِجَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَهَلَّا تَعْنِي تَنَشَّرْتَ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ شَفَانِي وَأَمَّا أَنَا فَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرّاً قَالَتْ وَلَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو ابن عيينة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مطبوب، يعني مسحورا‏)‏ هذا التفسير مدرج في الخبر، وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب، وكذا قوله ‏"‏ فهلا ‏"‏ تعني تنشرت‏.‏

ومن قال هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشيء بمعنى إظهاره‏.‏

وكيف يجمع بين قولها فأخرج وبين قولها في الرواية الأخرى ‏"‏ هلا استخرجته ‏"‏ وأن حاصله أن الإخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج المنفي كان لأجزاء السحر، وقوله في آخره ‏"‏ حليف ليهود ‏"‏ وقع في رواية الكشميهني هنا ‏"‏ لليهود ‏"‏ بزيادة لام

*3*باب مَا يُنْهَى عَنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّدَابُرِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر‏)‏ كذا للأكثر، وعند الكشميهني وحده ‏"‏ من ‏"‏ بدل ‏"‏ عن‏"‏‏.‏

وقوله تعالى ‏(‏ومن شر حاسد إذا حسد‏)‏ أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن التحاسد ليس مقصورا على وقوعه بين اثنين فصاعدا، بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من جانب واحد، لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة فهو مذموم مع الإفراد بطريق الأولى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏بشر بن محمد‏)‏ هو المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إياكم والظن‏)‏ قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الأحكام غالبا، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، ويؤيده حديث ‏"‏ تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها ‏"‏ وقد تقدم شرحه‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ المراد بالظن هنا التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عطف عليه قوله ‏"‏ ولا تجسسوا ‏"‏ وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع، فنهى عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى ‏(‏اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا‏)‏ فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظان أبحث لأتحقق، قيل له ‏(‏ولا تجسسوا‏)‏ فإن قال تحققت من غير تجسس قيل له ‏(‏ولا يغتب بعضكم بعضا‏)‏ وقال عياض‏:‏ استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على أصل ولا تحقيق نظر‏.‏

وقال النووي‏:‏ ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق بالأحكام أصلا، بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل‏.‏

وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه فلا، فإن اللفظ صالح لذلك، ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه في ‏"‏ المفهم ‏"‏ وقال‏:‏ الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث ولا من الآية‏.‏

فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ احتج به بعض الشافعية على من قال بسد الذريعة في البيع فأبطل بيع العينة، ووجه الاستدلال النهي عن الظن بالمسلم شرا، فإذا باع شيئا حمل على ظاهره الذي وقع العقد به ولم يبطل بمجرد توهم أنه سلك به مسلك الحيلة، ولا يخفى ما فيه‏.‏

وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث، مع أن تعمد الكذب الذي لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الأمر الذي يستند إلى الظن، فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو الذي لا يستند إلى شيء يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به، فيكون الجازم به كاذبا؛ وإنما صار أشد من الكاذب لأن الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه، بخلاف هذا فإن صاحبه بزعمه مستند إلى شيء فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه، وإشارة إلى أن الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإن الظن أكذب الحديث‏)‏ قد استشكلت تسمية الظن حديثا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع سواء كان قولا أو فعلا، ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تحسسوا ولا تجسسوا‏)‏ إحدى الكلمتين بالجيم والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل تتحسسوا، قال الخطابي معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها، قال الله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام ‏(‏اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه‏)‏ وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسة إحدى الحواس الخمس، وبالجيم من الجس بمعنى اختيار الشيء باليد وهي إحـدى الحواس، فتكون التي بالحاء أعم‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ هما بمعنى واحد‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ ذكر الثاني للتأكيد كقولهم بعدا وسخطا، وقيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين‏.‏

وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والأذن ورجح هذا القرطبي، وقيل بالجيم تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب، ويستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعين طريقا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص ليقتله ظلما، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات استدراكه، نقله النووي عن ‏"‏ الأحكام السلطانية ‏"‏ للماوردي واستجاده، وأن كلامه‏:‏ ليس للمحتسب أن يبحث عما لما يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تحاسدوا‏)‏ الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا، فإن سعى كان باغيا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر‏:‏ فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى ففد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه ‏"‏ ثلاث لا يسلم منها أحد‏:‏ الطيرة والظن والحسد‏.‏

قيـل‏:‏ فما المخرج منها يا رسول الله‏؟‏ قالا‏:‏ إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ ‏"‏ وعن الحسن البصري قال‏:‏ ما من آدمي إلا وفيه الحسد‏.‏

فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تدابروا‏)‏ قال الخطابي‏:‏ لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ قيل للإعراض مدابرة لأن من أبغض أعرض ومن أعرض ولى دبره، والمحب بالعكس‏.‏

وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر مستدبر لأنه يولى دبره حين يستأثر بشيء دون الآخر وقال المازري‏:‏ معنى التدابر المعاداة يقول دابرته أي عاديته‏.‏

وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا، والأول أولى‏.‏

وقد فسره مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ بأخص منه فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند‏:‏ ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يدبر عنه بوجهه‏.‏

وكأنه أخذه من بقية الحديث ‏"‏ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ‏"‏ فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، وسيأتي مزيد لهذا في ‏"‏ باب الهجرة ‏"‏ ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في ‏"‏ زيادات كتاب البر والصلة ‏"‏ لابن المبارك بسند صحيح عن أنس قال‏:‏ التدابر التصارم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا تباغضوا‏)‏ أي لا تتعاطوا أسباب البغض، لأن البغض لا يكتسب ابتداء‏.‏

وقيل المراد النهي عن الأهواء المضلة المقتضية للتباغض‏.‏

قلت‏:‏ بل هو لأعم من الأهواء، لأن تعاطي الأهواء ضرب من ذلك، وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكونوا عباد الله إخوانا‏)‏ بلفظ المنادي المضاف، زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن أبي هريرة ‏"‏ كما أمركم الله ‏"‏ ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس، وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم، كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء، ومعنى كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتا ونفيا، وقوله ‏"‏عباد الله ‏"‏ بحذف حرف النداء، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله فحقكم أن تتواخوا بذلك، قال القرطبي‏:‏ المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة والمواساة والمعاونة والنصيحة، ولعل قوله في الرواية الزائدة ‏"‏ كما أمركم الله ‏"‏ أي بهذه الأوامر المقدم ذكرها فإنها جامعة لمعاني الأخوة، ونسبتها إلى الله لأن الرسول مبلغ عن الله، وقد أخرج أحمد بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا ‏"‏ لا أقول إلا ما أقول ‏"‏ ويحتمل أن يكون المراد بقوله ‏"‏ كما أمركم الله ‏"‏ الإشارة إلى قوله تعالى ‏(‏إنما المؤمنون إخوة‏)‏ فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر، قال ابن عبد البر‏:‏ تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والإعراض عنه وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب، وأن لا ينقب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام في هذا الحديث من الزيادة ‏"‏ ولا تنافسوا ‏"‏ وكذا وقعت في حديث أبي هريرة من رواية الأعرج وبين الاختلاف فيها في الباب الذي بعده، ووقع عند مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة في آخره ‏"‏ كما أمركم الله ‏"‏ وقد نبهت عليها‏.‏

ولمسلم أيضا من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فيه ‏"‏ ولا يبع بعضكم على بيع بعض ‏"‏ وأفرد هذه الزيادة في البيوع من وجه آخر، ومثله من رواية أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة وزاد بعد قوله إخوانا ‏"‏ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام‏:‏ دمه وماله وعرضه، التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ‏"‏ وزاد في رواية أخرى من هذه الطريق ‏"‏ إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ‏"‏ وقد أفردها أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة، وزاد البخاري من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج فيه زيادة سأذكرها في الباب الذي بعده‏.‏

وهذه الطريق من رواية مولى عامر أجمع ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث عن أبي هريرة، وكأنه كان يحدث به أحيانا مختصرا وطورا بتمامه، وقد فرقه بعض الرواة أحاديث، وممن وقع عنده بعضه مفرقا ابن ماجه في كتاب الزهد من كتابه وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ

الشرح‏:‏

حديث أنس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا‏)‏ هكذا اقتصر الحفاظ من أصحاب الزهري عنه على هذه الثلاثة، وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه ‏"‏ ولا تنافسوا ‏"‏ ذكر ذلك ابن عبد البر في ‏"‏ التمهيد ‏"‏ والخطيب في ‏"‏ المدرج ‏"‏ قال‏:‏ وهكذا قال سعيد بن أبي مريم عن مالك عن ابن شهاب، وقد قال الخطيب وابن عبد البر‏:‏ خالف سعيد جميع الرواة عن مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ وغيره فإنهم لم يذكروا هذه الكلمة في حديث أنس، وإنما هي عندهم في حديث مالك عن أبي الزناد، أي الحديث الذي يلي هذا، فأدرجها ابن أبي مريم في إسناد حديث أنس، وكذا قال حمزة الكناني‏:‏ لا أعلم أحدا قالها عن مالك في حديث أنس غير سعيد، وسيأتي الكلام على حكم التهاجر، والتنبيه على زيادة وقعت في آخر حديث أنس هذا بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى‏.‏

*3*باب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ

إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا‏)‏ كذا للجميع، إلا أن لفظ ‏"‏ باب ‏"‏ سقط من رواية أبي ذر‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عنه فقط، وزعم ابن بطال وتبعه ابن التين أن البخاري أورد فيه حديث أنس - أي المذكور في الباب الذي قبله - ثم حكى ابن بطال عن المهلب أن مطابقته للترجمة من جهة أن البغض والحسد ينشآن عن سوء الظن، قال ابن التين‏:‏ وذلك أنهما يتأولان أفعال من يبغضانه ويحسدانه على أسوأ التأويل ا هـ‏.‏

والذي وقفت عليه في النسخ التي وقعت لنا كلها أن حديث أنس في الباب الذي قبله ولا إشكال فيه‏.‏

قوله فيه ‏(‏ولا تناجشوا‏)‏ كذا في جميع النسخ التي وقفت عليها من البخاري بالجيم والشين المعجمة، من النجش وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها ليقع غيره فيها، وقد تقدم بيانه وحكمه في كتاب البيوع، والذي في جميع الروايات عن مالك بلفظ ‏"‏ ولا تنافسوا ‏"‏ بالفاء والسين المهملة، وكذا أخرجه الدار قطني في ‏"‏ الموطآت ‏"‏ من طريق ابن وهب ومعن وابن القاسم وإسحاق بن عيسى بن الطباع وروح بن عبادة ويحيي بن يحيى التميمي والقعنبي ويحيى بن بكير ومحمد بن الحسن ومحمد بن جعفر الوركاني وأبي مصعب وأبي حذافة كلهم عن مالك، وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية يحيى بن يحيي الليثي وغيره عن مالك، وكذا أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى التميمي، وكذلك أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ولكنه أخرج من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ ‏"‏ ولا تناجشوا ‏"‏ كما وقع عند البخاري ومن طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز كذلك فاختلف فيها على أبي هريرة ثم أبي صالح عنه، فلا يمتنع أن يختلف فيها على مالك، إلا أني ما وجدت ما يعضد رواية عبد الله بن يوسف هذه، ويبعد أن يجتمع الجميع على شيء وينفرد واحد بخلافه ويكون محفوظا، ولم أر الحديث في نسختي من ‏"‏ مستخرج الإسماعيلي ‏"‏ أصلا فلا أدري سقط عليه أو سقط من النسخة، وقد أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من رواية الوركاني عن مالك ووقع فيه عنده ولا تنافسوا كالجماعة، ولكنه قال في آخره‏:‏ أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك ولم ينبه على هذه اللفظة، فما أدري هل وقع في نسخته على وفاق الجماعة أو على ما عندنا ولم يعتن ببيان ذلك، ولم أر من نبه على هذا الموضع حتى أن الحميدي ساقه من البخاري وحده من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة، وهذه الطريق قد مضت في أوائل النكاح، وليس فيها هذه اللفظة المختلف فيها ولكن فيها بعد قوله إخوانا ‏"‏ ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك ‏"‏ قال‏:‏ وأخرجه البخاري أيضا من حديث مالك فساقه بهذا السند والمتن بتمامه دون اللفظة التي أتكلم عليها وقال‏:‏ هكذا أخرجه البخاري في الأدب، وأغفله أبو مسعود، ولكنه ذكر أنه أخرجه من رواية شعيب عن أبي الزناد، ولم أجد ذلك فيه إلا من رواية شعيب عن الزهري عن أنس، قال الحميدي‏:‏ وأخرجه البخاري من رواية همام عن أبي هريرة نحوه، ومن رواية طاوس عن أبي هريرة مثل رواية الأعرج سواء‏.‏

قلت‏:‏ ورواية طاوس تأتي في الفرائض‏.‏

قال الحميدي‏:‏ وقد أخرجه مسلم أيضا من رواية مالك عن أبي الزناد فساقه وفيه ‏"‏ ولا تنافسوا ‏"‏ قال‏:‏ فهو متفق عليه من رواية مالك لا من أفراد البخاري وكأنه استدرك ذلك على نفسه، والغرض من ذلك أن الحميدي مع تتبعه واعتنائه لم ينبه على ما وقع في هذه اللفظة من الاختلاف، وكذا أغفل ابن عبد البر التنبيه عليها، وهي على شرطه في ‏"‏ التمهيد ‏"‏ وكذلك الدار قطني، ولو تفطن لها لساقها في ‏"‏ غرائب مالك ‏"‏ كعادته في أنظارها، ولكنه لم يتعرض لها فلعلها من تغيير بعض الرواة بعد البخاري‏.‏

والله أعلم‏.‏

*3*باب مَا يَكُونُ مِنْ الظَّنِّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يجوز من الظن‏)‏ كذا للنسفي، ولأبي ذر عن الكشميهني، وكذا في ابن بطال‏.‏

وفي رواية القابسي والجرجاني ‏"‏ ما يكره ‏"‏ وللباقين ‏"‏ ما يكون ‏"‏ والأول أليق بسياق الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَظُنُّ فُلَاناً وَفُلَاناً يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئاً قَالَ اللَّيْثُ كَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بِهَذَا وَقَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً وَقَالَ يَا عَائِشَةُ مَا أَظُنُّ فُلَاناً وَفُلَاناً يَعْرِفَانِ دِينَنَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما أظن فلانا وفلانا‏)‏ لم أقف على تسميتهما، وقد ذكر الليث في الرواية الأولى أنهما كانا منافقين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يعرفان من ديننا شيئا‏)‏ وفي الرواية الأخرى يعرفان ديننا الذي نحن عليه، قال الداودي‏:‏ تأويل الليث بعيد، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف جميع المنافقين، كذا قال‏.‏

وقال غيره‏:‏ الحديث لا يطابق الترجمة لأن في الترجمة إثبات الظن وفي الحديث نفي الظن، والجواب أن النفي في الحديث لظن النفي لا لنفي الظن فلا تنافي بينه وبين الترجمة، وحاصل الترجمة أن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه، لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين، والنهي إنما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه وعرضه، وقد قال ابن عمر‏:‏ إنا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن، ومعناه أنه لا يغيب إلا لأمر سيء إما في بدنه وإما في دينه‏.‏

*3*باب سَتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ستر المؤمن على نفسه‏)‏ أي إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عبد العزيز بن عبد الله‏)‏ هو الأويسي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن أخي ابن شهاب‏)‏ هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري، ووقع في رواية لأبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه ‏"‏ حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن عبد الله ابن أخي ابن شهاب ‏"‏ وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير، وربما أدخل بينهما واسطة مثل هذا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن شهاب‏)‏ في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كل أمتي معافى‏)‏ بفتح الفاء مقصور اسم مفعول من العافية وهو إما بمعنى عفا الله عنه وإما سلمه الله وسلم منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلا المجاهرين‏)‏ كذا هو للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم بالنصب‏.‏

وفي رواية النسفي ‏"‏ إلا المجاهرون ‏"‏ بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال‏.‏

كذا وقع، وصوابه عند البصريين بالنصب، وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع، كذا قال‏.‏

وقال ابن مالك ‏"‏ إلا ‏"‏ على هذا بمعنى لكن، وعليها خرجوا قراءة ابن كثير وأبي عمرو ‏"‏ ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ‏"‏ أي لكن امرأتك ‏"‏ أنه مصيبها ما أصابهم ‏"‏ وكذلك هنا المعنى‏.‏

لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون، فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ حق الكـلام النصب إلا أن يقال العفو بمعنى الترك وهو نوع من النفي، ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا الفاسق المعلن ا هـ‏.‏

واختصره من كلام الطيبي فإنه قال‏:‏ كتب في نسخة ‏"‏ المصابيح ‏"‏ المجاهرون بالرفع وحقه النصب، وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي، أي كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ الأظهر أن يقال المعنى كل أمتي يتركون في الغيبة إلا المجاهرون، والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله‏:‏ ‏(‏ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏)‏ والمجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به ا هـ‏.‏

والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بكذا بمعنى جهر به‏.‏

والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة والمراد الذي يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد الاحتمال الأول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن من المجاهرة‏)‏ كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال، وللباقين ‏"‏ المجانة ‏"‏ بدل المجاهرة‏.‏

ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد ‏"‏ وإن من الإجهار ‏"‏ كذا عند مسلم‏.‏

وفي رواية له ‏"‏ الجهار ‏"‏ وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ الإهجار ‏"‏ وفي رواية لأبي نعيم في المستخرج ‏"‏ وإن من الهجار ‏"‏ فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة ألف قبل كل منهما، قال الإسماعيلي‏:‏ لا أعلم أني سمعت هذه اللفظة في شيء من الحديث، يعني إلا في هذا الحديث‏.‏

وقال عياض‏:‏ وقع للعذري والسجزي في مسلم الإجهار وللفارسي الإهجار وقال في آخره‏:‏ وقال زهير الجهار، هذه الـروايات من طـريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم، وفي أخـرى عن ابن سفيان في رواية زهير الهجار، قال عياض‏:‏ الجهار والإجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والإظهار، ويقال جهر وأجهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قـوله أولا ‏"‏ إلا المجاهرون ‏"‏ قال وأما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا، لأن الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي لا يبالي بما قال وما قيل له‏.‏

قلت‏:‏ بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لأن الكلام المذكور بعده لا يرتاب أحد أنه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة، وأما الرواية بلفظ المجانة فتفيد معنى زائدا وهو أن الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان، والمجانة مذمومة شرعا وعرفا، فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين‏:‏ إظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان، قال عياض‏:‏ وأما الإهجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام، وهو قريب من معنى المجانة، يقال أهجر في كلامه، وكأنه أيضا تصحيف من الجهار أو الإجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا، وأما لفظ الهجار فبعيد لفظا ومعنى لأن الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح له هنا معنى، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ بل له معنى صحيح أيضا فأنه يقال هجر وأهجر إذا أفحش في كلامه فهو مثل جهر وأجهر، فما صح في هذا صح في هذا، ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره أن لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏البارحة‏)‏ هي أقرب ليلة مضت من وقت القول، تقول لقيته البارحة، وأصلها من برح إذا زال‏.‏

وورد في الأمر بالستر في الأمر حديث ليس على شرط البخاري وهو حـديث ابن عمر رفعه ‏"‏ اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله ‏"‏ الحديث أخرجه الحاكم، وهو في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ من مرسل زيد بن أسلم، قال ابن بطال‏:‏ في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك، وبهذا يعرف موقع إيراد حديث النجوى عقب حديث الباب، وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن، والجواب أن الحديث مصرح بذم من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر، وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه، فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن الناس من الله عليه بستره إياه، وقيل إن البخاري يشير بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي النَّجْوَى قَالَ يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ وَيَقُولُ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ ثُمَّ يَقُولُ إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن صفوان بن محرز‏)‏ في رواية شيبان عن قتادة ‏"‏ حدثنا صفوان ‏"‏ وتقدم التنبيه عليها في تفسير سورة هود، وصفوان مازني بصري وأبوه بضم أوله وسكون المهملة وكسر الراء ثم الزاي ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق عنه عن عمران بن حصين وقد ذكرهما في عدة مواضع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن رجلا سأل ابن عمر‏)‏ في رواية همام عن قتادة الماضية في المظالم عن صفوان قال ‏"‏ بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده ‏"‏ وفي رواية سعيد وهشام عن قتادة في تفسير هود ‏"‏ بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل ‏"‏ ولم أقف على اسم السائل لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير فقد أخرج الطبراني من طريقه قال ‏"‏ قلت لابن عمر حدثني ‏"‏ فذكر الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف سمعت‏)‏ في رواية سعيد وهشام ‏"‏ فقال يا أبا عبد الرحمن ‏"‏ وهي كنية عبد الله بن عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى‏)‏ هي ما تكلم به المرء يسمع نفسه ولا يسمع غيره، أو يسمع غيره سرا دون من يليه، قال الراغب‏:‏ ناجيته إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل أصله من النجاة وهي أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه، والنجوى أصله المصدر، وقد يوصف بها فيقال هو نجوى وهم نجوى، والمراد بها هنا المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ أطلق على ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رءوس الأشهاد هناك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يدنو أحدكم من ربه‏)‏ في رواية سعيد بن أبي عروبة ‏"‏ يدنو المؤمن من ربه ‏"‏ أي يقرب منه قرب كرامة وعلو منزلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يضع كنفه‏)‏ بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه، والكنف أيضا الستر وهو المراد هنا، والأول مجاز في حق الله تعالى كما يقال فلان في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته‏.‏

وذكر عياض أن بعضهم صحفه تصحيفا شنيعا فقال بالمثناة بدل النون ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ ‏"‏ يجعله في حجابه ‏"‏ زاد في رواية همام ‏"‏ وستره‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول عملت كذا وكذا‏)‏ في رواية همام فيقول ‏"‏ أتعرف ذنب كذا وكذا ‏"‏ زاد في رواية سعيد وهشام ‏"‏ فيقرره بذنوبه ‏"‏ وفي رواية سعيد بن جبير ‏"‏ فيقول له أقرأ صحيفتك فيقرأ، ويقرره بذنب ذنب، ويقول أتعرف أتعرف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيقول نعم‏)‏ زاد في رواية همام ‏"‏ أي رب ‏"‏ وفي رواية سعيد وهشام ‏"‏ فيقول أعرف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم يقول إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم‏)‏ في رواية سعيد بن جبير ‏"‏ فيلتفت يمنة ويسرة فيقول‏:‏ لا بأس عليك إنك في ستري لا يطلع على ذنوبك غيري ‏"‏ زاد همام وسعيد وهشام في روايتهم ‏"‏ فيعطى كتاب حسناته ‏"‏ ووقع في بعض روايات سعيد وهشام ‏"‏ فيطوى ‏"‏ وهو خطأ‏.‏

وفي رواية سعيد بن جبير ‏"‏ اذهب فقد غفرتها لك ‏"‏ ووقع عند الثلاثة ‏"‏ وأما الكافر والمنافق ‏"‏ ولبعضهم ‏"‏ الكفار والمنافقون ‏"‏ وفي رواية سعيد وهشام ‏"‏ وأما الكافر فينادي على رءوس الأشهاد‏:‏ هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ‏"‏ وقد تقدم في تفسير هود أن الأشهاد جمع شاهد مثل أصحاب وصاحب، وهو أيضا جمع شهيد كشريف وأشراف، قال المهلب‏:‏ في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يضع عليه كنفه وستره أحدا إلا الكفار والمنافقين فإنهم الذين ينادي عليهم على رءوس الأشهاد باللعنة‏.‏

قلت‏:‏ قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث ومعه حديث أبي سعيد ‏"‏ إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الحنة ‏"‏ الحديث، فدل هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة، ودل حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من العصاة يعذب بالنار ثم يخرج منها بالشفاعة كما تقدم تقريره في كتاب الإيمان، فدل مجموع الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين‏:‏ أحدهما من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين‏:‏ قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة وهو بالمنطوق، وقسم تكون معصيته مجاهرة فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك‏.‏

والقسم الثاني من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا‏:‏ قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم فهؤلاء يقعون في النار ثم يخرجون بالشفاعة، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص كما دل عليه حديث أبي سعيد، وهذا كله بناء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على الله شيء وهو يفعل في عباده ما يشاء‏.‏

*3*باب الْكِبْرِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ ثَانِيَ عِطْفِهِ مُسْتَكْبِرٌ فِي نَفْسِهِ عِطْفُهُ رَقَبَتُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الكبر‏)‏ بكسر الكاف وسكـون الموحدة ثم راء، قال الراغب‏:‏ الكبر والتكبر والاستكبار متقارب، فالكبر الحالة التي يختص بها الإنسان من إعجابه بنفسه‏.‏

وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره، وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن يمتنع من قبول الحق والإذعان له بالتوحيد والطاعة‏.‏

والتكبر يأتي على وجهين‏:‏ أحدهما أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر، والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه، وهو وصف عامة الناس نحو قوله ‏(‏كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار‏)‏ والمستكبر مثله‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ الكبر على قسمين‏:‏ فإن ظهر على الجوارح يقال تكبر، وإلا قيل‏:‏ في نفسه كبر‏.‏

والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح إلى رؤية النفس، والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد ‏(‏ثاني عطفه‏)‏ مستكبرا في نفسه، عطفه رقبته‏)‏ وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله تعالى ‏(‏ثاني عطفه‏)‏ قال رقبته‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‏(‏ثاني عطفه‏)‏ قال مستكبرا في نفسه، ومن طريق قتادة قال‏:‏ لاوي عنقه‏.‏

ومن طريق السدي ‏(‏ثاني عطفه‏)‏ أي معرض من العظمة‏.‏

ومن طريق أبي صخير المدني قال‏:‏ كان محمد بن كعب يقول‏:‏ هو الرجل يقول هذا شيء ثنيت عليه رجلي، فالعطف هو الرجل، قال أبو صخر‏:‏ والعرب تقول العطف العنق‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحارث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَاعِفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ

الشرح‏:‏

حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة ن، والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار‏.‏

وقوله ‏"‏ألا أخبركم بأهل الجنة‏؟‏ كل ضعيف ‏"‏ هو برفع كل لأن التقدير هم كل ضعيف الخ ولا يجوز أن يكون بدلا من أهل‏.‏

حديث أنس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وقال محمد بن عيسى‏)‏ أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة مفتوحة وموحدة ثقيلة، وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون، وهو ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيي القطان وابن مهدي يسألانه عن حديث هشيم‏.‏

وقال أبو حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون، ورجحه على أخيه إسحاق بن عيسى وإسحاق أكثر من محمد‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ كان يتفقه، وكان يحفظ نحو أربعين ألف حديث، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين، وحدث عنه أبو داود بلا واسطة‏.‏

وأخرج الترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجه من حديثه بواسطة، ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع آخر في الحج ‏"‏ قال محمد بن عيسى حدثنا ‏"‏ قال حماد ولم أر في شيء من نسخ البخاري تصريحه عنه بالتحديث، وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية، وأما الإسماعيلي فإنه قال‏:‏ قال البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا، وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا، فساقه في مستخرجه من طريق البخاري، وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد بن عيسى فيه، وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن عيسى بالتحديث، فإنه عنده عن هشيم ‏"‏ أنبأنا حميد عن أنس ‏"‏ وحميد مدلس، والبخاري يخرج له ما صرح فيه بالحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتنطلق به حيث شاءت‏)‏ في رواية أحمد ‏"‏ فتنطلق به في حاجتها ‏"‏ وله من طريق علي بن زيد عن أنس ‏"‏ أن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت ‏"‏ وأخرجه ابن ماجه من هذا الوجه، والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد‏.‏

وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت، وبقوله ‏"‏ حيث شاءت ‏"‏ أي من الأمكنة‏.‏

والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة على ذلك، وهذا دال على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع أحاديث، من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل‏:‏ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال‏:‏ الكبر بطر الحق وغمط الناس ‏"‏ والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء والاحتقار، وقد أخرجه الحاكم بلفظ ‏"‏ الكبر من بطر الحق وازدري الناس ‏"‏ والسائـل المذكور يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن ذلك، وكذا أخرج من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك‏.‏

وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه ‏"‏ الكبر السفه عن الحق، وغمص الناس‏.‏

فقال‏:‏ يا نبي الله وما هو‏؟‏ قال‏:‏ السفه أن يكون لك على رجل مال فينكره فيأمره رحل بتقوى الله فيأبى، والغمص أن يجيء شامخا بأنفه، وإذا رأى ضعفاء الناس وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم ‏"‏ وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة ‏"‏ وأخرج أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه ‏"‏ من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين، ومن تكبر على الله درجة وضعه الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين ‏"‏ وأخرج الطبراني في ‏"‏ الأوسط ‏"‏ عن ابن عمر رفعه ‏"‏ إياكم والكبر، فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة ‏"‏ ورواته ثقات، وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد بالكبر في هذه الأحاديث الكفر، بدليل قوله في الأحاديث ‏"‏ على الله ‏"‏ ثم قال‏:‏ ولا ينكر أن يكون من الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه، لأن معتقد الكبر على ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى‏.‏

وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حماد بكسر المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ‏"‏ الحديث، والأمر بالتواضع نهي عن الكبر فإنه ضده، وهو أعم من الكفر وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل‏:‏ لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ، وظاهره غير مراد‏.‏

وقيل معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر، حكاه الخطابي، واستضعفه النووي فأجاد لأن الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للإخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال الطيبي‏:‏ المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل، لأن تحرير الجواب إن كان استعمال الزينة لإظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب، وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم‏.‏